الاثنين، 6 يونيو 2011

[عن كتاب: الكتاب المقدس رسالة شخصية لك -- المؤلف: الأب متى المسكين -- الطبعة الثانية: 1987م -- صفحة: 12 - 16]

      

توجد كتب علمية وتاريخية وأدبية تبحث عن الحق أو الحقيقة في كل صورها داخل الإنسان وخارجة، وتلقي أضواءً على المعرفة بكل أنواعها فيما يخص الإنسان أو الحقيقة كلها، وهذه تناسب عقل الإنسان و تهدف إلى صحة جسده وتزيد من إدراكه وتُغني من تراثه الفكري والحضاري.

ولكن الكتاب المقدس ليس كذلك، ولا ينبغي أن ندخل إليه من هذا المدخل. فالكتاب المقدس رسالة شخصية من الله للإنسان مباشرة تهدف إلى خلاصه والإرتقاء بروحه لتعده للحياة الفُضلى، أى للحياة الأبدية.

وفي هذه الرسالة يوضح الله نفسه للإنسان بصورة شخصية خاصة جداً يكشف فيها عن قدرته الفائقة لتُضاف إلى ضعف الإنسان، وعن حبه الفائق ليمتلىء به في قلبه، وعن قداسته ليلبسها فيستر بها عريه، وعن إمكانياته الهائلة في الصفح والغفران والغسل والتطهير للدخول في حياة بنوَّة جديدة لله ليرتاح ضمير الإنسان بهذا الرجاء. ثم من خلال هذا الكشف العميق عن هذه الصفات الإلهية الفعالة المحيية للإنسان يدعو الله الإنسان ويُهيَّئه للدخول معه في شركة حياة صادقة طاهرة، فلا يعود الإنسان تائهاً يتلمس الخلاص بعقله وإمكانياته.

والشركة التي يدعو إليها الله ليست وهمية ولا هي بالكلام القائم على الإقناع البشري، بل اسَّسها المسيح بدمه. إنها شركة تقوم على العطاء والأخذ: الله فيها يعطي روحه، يعطى دمه، يعطي نفسه من خلال عطاياه ومواهبه؛ والإنسان يأخذ ليزداد ارتفاعاً فوق نفسه وتزداد إمكانياته في استيعاب أمور فائقة على إمكانياته، لأن هذا من صميم طبيعة عطايا القدير.

ولكن أعجب ما في هذه الشركة أن عطاء الله لا يتوقف على أخذ الإنسان، فالله يعطي مواهبه بالروح بلا حدود، بلا كيل ولا ميزان، حسب سخاء طبيعته الفائقة. لذلك أصبح الجهد كله متوقفاً على قدرة الإنسان في التصديق، ثم الأخذ، ثم الإستيعاب.

بهذا تنكشف وتجدد طبيعة الكتاب المقدس أمامك إيها القارىء، فأنت حينما تقرأ الكتاب المقدس لا ككتاب معرفة وعلم إنما كرسالة من الله لك شخصياً، كصك ميراث به حقوق مختومة بعهد الله، فلن تعود مجرد قارىء بل آخذاً ووارثاً. ولا يعود الكتاب المقدس كتاباً للقراءة للعلم، بل صك ميراث ومفاتيح خزائن لعطايا ومواهب إلهية، وفي كل عطية مطبوع اسم وختم الله وصورة شخصية ليسوع المسيح، صورة حية مهداة لك لتضعها في القلب إن كنت تصدقة وتأخذ وتملك، فتحييك وتجعلك أكثرر شبهاً لله وتحركك وتدفعك وتشجعك لتدخل إلى عمق أكثر في هذه الشركة، في البر، في القداسة، في الحق.

                                                       * * *

كل الذين دخلوا في هذه الدائرة – دائرة الرسالة الإلهية – أى الكتاب المقدس، تعرَّفوا على الله وقبلوا منه دعوة دائمة للدخول إليه وانفتحت امامهم خزانة عطايا الله ليأخذوا على قدر سعيهم في الأخذ، فاستوعبوا كل مقاصد الله، وتعرفوا على إرادته الكاملة المرضية من نحوهم، وقليلاً إذ حل الله في أحشائهم دون أن يدروا تغير حالهم وتبذل شكلهم وتجدد ذهنهم وتقووا من ضعفهم، وانطلقوا يبشرون بما رأوه وسمعوه وذاقوه، خبرات فوق خبرات، وهكذا تحول الإنجيل فيهم من رسالة إلى خزانة إلى شهادة، ثم بشارة بحب الله الفائق.

ولقد تجمعت شهادات الذين ذاقوا الرب واختبروه في مجال الكتاب المقدس على مدى الأجيال حتى صارت هذه الشهادة بحد ذاتها جزءاً لا يتجزأ من صميم رسالة الإنجيل الذي يؤكد لنا ربحنا المضمون، وتحرضنا على دخول هذا المجال واثقين من النهاية قبل البداية!

بصمات الكلمة على القلب:
حينما تقرأ الكتاب المقدس، كرسالة خاصة لك آتية إليك من الله، بوعي روحي والقلب يكون مفتوحاً ومستقبلاً باستعداد الطاعة و الفرح، تأخذ الكلمات مسارها إلى أعماق الضمير والوجدان الروحي، فتحرك وتشكل وتطبع تأثيرها الإلهي الفعال كبصمات حية مميزة لمشيئة الله ومسرته ينتعش لها الضمير وتسل لها الدموع من فرط الإنطباع المريح الذي تتركه الكلمة على الإرادة والضمير، فتصيغ النفس صياغة جديدة أكثر قرباً واكثر شبهاً لإرادة الله ومسرته فتدفع الإنسان للشكر والإستزادة من التقدم نحو الله في نور الكلمة. وكأنما المسيح يمسك بيد الإنسان ويقوده ليعبر به مآزق الحياة وظلمات هذا الدهر حتى يوصله إلى قلب الله الآب.

صراع منهجين:
وهكذا إذا أخذنا الكلمة مأخذاً عاماً بالفكر الحر المطلق فقط، فإنها تحرك العقل للفحص والسؤال ثم الشك. ولكن إذا أخذناها مأخذاً شخصياً بالروح المنسحق – كما قلنا – كرسالة حية، فإنها تحرك القلب للتطهير والتقديس والنمو بكل تقوى وكل إيمان.

هذان المنهجان قائمان أمامك أيها القارىء، ولك أن تختار:
فإذا اخترت المنهج الأول دون الثاني، تتلقفك في الحال علوم الفحص والتحليل والنقد، وأخيراً ظلمة الشك.

أما إذا اخترت المنهج الثاني، فإنه تنبري لك خبرات الآباء والأنبياء والرسل والقديسين تزكي لك سيرة القداسة وشهادة الروح في عمق الضمير لتبني عليها حياتك الجديدة بإيمان اختباري، فتستطيع أن ترد على كل تشككات الفكر وعلوم النقد والتحليل من إيمانك واختبارك.

ولكن أخطر الأمور أن يبدأ الإنسان بالمنهج الأول، لأنه سريعاً ما تنصد النفس عن علم لا عائد له ولا سند، وبهذا يصبح الكتاب المقدس ثقلاً على العقل وربما عدواً للضمير الذي لا يجد فيه راحته فيخافة ويحتقره ويتحاشاه، لأنه كلما اقترب منه يشعر باغترابه عن الحق، وبالتالي يشعر ببعد الله عنه!

أما إذا توفر الإنسان في بدء حياته على المنهج الثاني فإنه سيختبر كيف تقبل النفس على الكتاب جائعة إليه، كخبز كل يوم ليومه، كلما أكلت منه عادت إليه أشد جوعاً، ولكما ارتون بمائه الحي زاد تعطشها نحو الله وانطفأ عطشها نحو العالم. وكلما كثر تطلعها القلبي نحو مصيرها الأبدي؛ كلما انطبع نور وجه الله عليها كختم منير دون أن تشعر هي بشىء، فيراها الناش مضيئة، بينما لا ترى هي من ذاتها إلا ضعفها المحصور في حب الله!! وحينئذ تستطيع النفس أن تواجه باتساعها واستنارتها وحبها كل تحديات علم العالم وتشككه، وكل عنف عقل الإنسان عندما يضيق باتساع حب الله وتنازله في كتابه المقدس

إذن، فمشكلة تحدي العلم كمنهج يصارع العقل والمنطق والضمير عند تناول الكتاب المقدس هي مشكلة محلولة عندما يبدأ الإنسان بالروح لا بالحرف، بالخبرة قبل الدرس، بالرؤيا قبل السير، بالحب قبل التأديب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق