السبت، 4 يونيو 2011

رسالة كتبت لأحد الأحباء (في مناسبة انتقال الابنه الوحيدة له)

                 
                           


عزيزي وأخى في الرب نعمة و بركة و سلام لشخصك المحبوب.أتعشم في وجه ربنا يسوع المسيح أن تكون في ملئ تعزية الروح القادر أن يسكب في قلبك من فيض مراحمه هبة السلام لتظل في تعزية دائمة.

- لقد تأخرتُ في الكتابة إليك، و كأنما قد ادخر الله كل مشاعري نحوك لأُقدَّمها في الوقت الُمعين، إن كان خطابي هذا ربما يكون آخر ما وصلك من تعزيات. كما أظن أنى قد أضعتُ فرصة حسب منطق الناس، إذ اعتقد أن انتقال ابنتنا المحبوبة ( ... ) ليس بحادثة تُنسى أو يتقادم عليها العهد بمضيَّ الزمن. غير أنى اقصد في تعزيتي شيئاً أسْمى مما يتعارف علية الناس الذين يعتبرون التعزية اشتراكاً في الحزن أو دعوة إلى نسيان الحزن ذاته، بل أرجو بنعمة ربنا الرب و معونة الروح القدس أن أكشف لمحبتك شيئاً أسْمى عن حقيقة ذلك الانتقال الذي حازته ابنتنا المحبوبة.

- فان كان يُخطئ الكثيرون بجعل الموت واقعه من وقائع الحياة، إلا أننا نعتبره حياةً واقعة نحياها في هذا الدهر، فنحن نحيا الآن حياةً قوامها الموت يتخللها في كل مرحلة من مراحلها ويعمل في كل عضو من أعضائنا في كل لحظة إلى أن يتم عمله فينا وتكمل حدوده، وحينئذ نعبُر هذه الحياة المائتة لنحيا حياة الأبد غير المائتة . فالموت إذن كائن معنا في صميم كياننا وفي داخل كل عضو من أعضائنا يعمل فينا بشدة بالرغم من تجاهلنا. 

- ونحن لو توخينا الحقيقة و تأملنا ملياً في موضوع الموت، لوجدناه أهم و أعظم موضوع في هذه الحياة الحاضرة. بَيْد أني أريد أن أقول إنة ليس أعظم موضوع فحسب، بل هو أسْمى من أن يُدعى موضوعاً، إذ هو في حقيقته عملية تجريد كامل لكل موضوع و كل اهتمام في هذه الحياة. فالموت يُجرد الإنسان تجريداً من كل شيء حتى ذاته التي يعزها و يُحبها، ولا يبقى للإنسان إلا روح الحياة ذاتها وما ينسجم مع الخلود. فكأن الموت والحياة هُما خلاصة حقيقة الإنسان، وحتى الحياة مدينة في تكميلها ودوامها إلى الموت، ولذلك نجد إن كل نفس تشتهي حياة الخلود لا تجزع من الموت لأنه بابُها و الطريق إليها.

- وحينما تسمو روح الإنسان وتتكشف أمامه هذه الحقائق الثابتة ويعرف إن الموت كائن فيه ومُمكن أن يتم فيه  في أي لحظة، فإنه يشعر بما تتصف به الحياة من بطلان، فلا يعود ينطوي تحت مغرياتها ولذلتها، ولا تعود الأشياء التي في هذا العالم تستأثر بتفكيره واهتمامه بالحياة الخالدة واعتباره بأهمية الموت وحقيقته. ويستطيع الإنسان الواعي لوجوده أن يدرك بسهولة انه موجود ليموت و أنه يموت ليحيا.

- ومهما حاولنا أن نُخفى هذه الحقيقة الجوهرية عن أنفسنا، أي أننا موجودون للموت؛ فهي لابد وأن تستظهر على جميع معارفنا و إدراكتنا يوماً. ويُخطئ الكثيرون إذ يعتبرون الموت حادثاً اضطرارياً فيمثلونه بالجبار الطاغي الذي يخطف الناس و يبتلع البشر، مع أن الموت كما قلتُ لمحبتك ليس بعامل خارجي عنا، بل هو فينا  يكمَّل وجودنا و يسوقنا إلى حياة أفضل.

- لذلك لا نستطيع أن نقول أنة قاسٍ أو طاغٍ أو ظالم، فهذه أوصاف جاهلة لعدو غير موجود أصلاً. وإن شئت فقُلْ إن الموت يعمل بهمة ونشاط من اليوم الأول الذي نُولد فيه، ونحن نتركه يعمل فينا بحريتنا إذ نتقبل وجودنا وحياتنا بمسرة وبمنتهى الحرية، فنحن نتقبل الموت أيضاً كذلك لأنه جزء لا يتجزأ من وحودنا، إذ لا يُمكن أن نفصل الموت عن الوجود بأي حال من الأحوال. والذي لا يريد أن يقبل الموت فهو ينكر وجوده، وهذا منتهى الجهالة بالحق، فالوجود هو الله.

- وعلى هذه الحقيقة العظمى "الوجود هو الله"، نقرأ قول السيد إن: " مَنْ أهلك ذاته من أجلي يجدها ".  وهذه دعوة عجيبة لتحقيق الوجود في الخلود على أساس إماتة ألذات! ولكي يؤكد السيد المسيح هذه الحقيقة العظمى عاد فعكس الوضع ليُظهر منتهى الخسارة التي تعود على مَنْ يتجاهل أهمية الموت قائلاً: " و كل مَنْ وجد ذاته يُضيعها" (مت10:39). وهذا أيضاً تحذير عجيب من ضياع الوجود والخلود بسبب الإبقاء على الذات. هذا هو الموت الذي يريد بعض الناس أن يتجاهله و يخشاه البعض الآخر، ويعتبره الجميع عدواً، مُعطين إياه ركناً مظلماً في مشاعرهم، جاعلين إياه خاتمة حزينة للحياة، مع أن الموت كما شرحتُ لمحبتك هو نسيج الحياة: سُدَته الأيام و لُحْمته الآلام، فاليوم فرسخ من فراسخ الموت، والألم موت لم يتكامل بعد.

- فإن كان يستطيع أحد من الناس أن يتجاهل الأيام أو يتجاهل الآلام،  صحَّ له أن يتجاهل الموت، وهل يُمكن؟!

- إذاً، فليس في الوجود حقيقة أظهر من الموت و لا أهم منه إلا الحياة ذاتها، والموت طريقها. ولكن هل يُمكن أن نتقبل الموت في أحبائنا دون أن نتألم ؟ إن منْ يقول ذلك فهو يتجاهل الحقيقة أو يجاهلها، و كل مَنْْ يدعو إلى ذلك فهو إنما يُحاول إن يُجرَّد الإنسان من عواطفه و مشاعره.

- وها أنا بكتابتي إليك، انزع إلى توضيح قيمة الموت و تعظيمه، لأن في ذلك تلامساً شديداً مع الحق. كذلك فإني لا أريد أن أستصغر قيمة الألم، بل على النقيض أود لو أستظهره و أستوضحه لان في ذلك تلامساً أشد مع الحق، إذ أن الألم لازمة من لوازم العنصر الإنساني، بل إنه كلما ارتقت مشاعر الإنسان وازداد نُبْله ازدادت قابليته و استشعاره  لنواحي الألم العديدة. وها هو السيد المسيح يدخله  كعنصر أساسي في برنامج الخلاص الأبدي و يضع ذاته تحت كل مطالبه، و لم يتجاهل الموت المتحصَّل منه (من الألم)، بل كان يرى ظل الصليب ينعكس على كل خطوة و يمتد أمامه في الأفق البعيد فتقبَّله بل وارتقبه. وهو لما تحمل الآلام تحملها دون أن يكون مستحقاً لها، فاستطاع أن يُقدم لنا حلاً و جواباً عملياً مقنعاً لأعقد مشكلة واجهت البشرية، وهى: "لماذا أتألم ؟" فهو تألم مع كونه غير خاطئ وبالتالي غير مستحق للألم و لا للموت، ولكنه قََبِلَ أن يتألم بإرادته ومسرته ليرفع قيمة الألم أمامنا من مُجرد عقاب على خطية إلى صورة رائعة من صور المحبة ! المحبة من نحو أبيه ومن نحونا، هذه المحبة التي حوَّلت – في اعتباره - الألم إلى لذة، و بذلك لم يعُد الألم في طريق حياتنا عقاباً على خطية، لأن المسيح بآلامه و فىَّ جميع ديوننا، بل صار الألم طريقاً عمليا لإظهار الإيمان بقبول الألم بمسرة كمشاركة فعلية في يوم الصليب.

- ونحن لم يُوهب لنا في عالمنا الحاضر فرصة أو وسيلة يُمكننا أن نُعبَّر بها عن حبنا للمسيح أعظم من أن نتألم فرحين، على حد قول بولس الرسول مكمَّلين آلام المسيح في أجسادنا  وحاسبين أنفسنا أهلاً أن نتألم معه على نمط تألمه؛ أى عن حب لا عن اضطرار.
- وإن كان يدَّعي بعض العلماء و الأطباء أن الانتصار على الألم يكون بتجاهله أو الانشغال عنه بنوع من أنواع التسلية اللذيذة، إلا أن هذا ليس بالنصح الرشيد، فلن يُمكن الانتصار على الألم بتجاهله أو بالانشغال عنه، لأنه بذلك لن يكف عن أن يهدَّ في كياننا العصبي والنفسي، ولن يتم الانتصار على الألم إلا بتقبلُّه قبولاً حُراً متعرفين على أسبابه و أهدافه، إذ أن قبول الألم و الارتضاء به فيه نصرة أكيدة وعجيبة، خصوصاً إذا كان قبولنا له على أساس حبنا للمسيح و مشاركتنا حياته، كما تقبَّله المسيح حباً لأبيه ولنا. ويقول الرسول عن ذلك معبراً تعبيراً عميقاً: "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أن تتألموا من أجله" ( في 1: 29). وفي هذا أيضاً يفتتح يعقوب الرسول رسالته قائلاً: " احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة" (يع1:1)

- هوذا يا أخي نحن نودع هياكل أجسادنا التراب لتَبلَى وتعود إلى التراب الذي نمت وتربت فيه، أما هياكل أرواحنا فهي أعظم من التراب و أعظم من الكاتدرائيات العظمى التي نظن إنها تُقدَّس أرواحنا، لأن روح الإنسان من الله. لهذا فهي لها كرامة أفضل بقدر فضل باني البيت عن البيت نفسه، فإن كانت علائق حبنا ورُبُط أُلفتنا جسدية فقط، فما أضعفها علائقَ و ما أهونها رُبُطاً، لأنها تكون وشيكة الضياع سريعة الزوال، والزمن الحقير في سنين يسيرة قادر أن يُضعفها و يمحوها !

- أما إذا كانت أُلفتنا روحية و حبنا ووحدتنا قائمتين على أساس عمل المسيح في توحيد المؤمنين به، فهذه تكون أُلفة الأبد ومحبة الخلود التي لا يقوى الزمن مهما طالت به السنون أن يُضعف من شدتها. فهل نرفع علائقنا بأحبائنا  سواء الذين سبقوا فرحلوا أم الذين أُعطِى لهم زمانٌ قليلٌ بعد  فنكمَّل معهم وحدة الخلود الأبدية في شخص المسيح؟ فلا تعود العواطف الجسدية والحنين إلى صور الوجوه فقط يستأثر روحنا، بل نسمو بأرواح أحبائنا و صورهم لنراها حية خالدة مطبوعة على قلب المسيح يربطنا بها روح المسيح الحي فينا.

- نعم ليتنا نسمو في تقديرات حوادث هذا الدهر، عالمين أن كل ترتيبات البشر الزمنية ستؤول حتماً إلى الانحلال ثُم إلى الزوال، ولن يبقى من هذه الضجة الكبرى التي نحن في موكبها، من الطفولة إلى الانتقال، إلا ما ينسجم مع قانون الخلود.

- وسيان ما تُبْطنه الحوادث وما تُظهره، أكان جميلاً مسراً أم أليماً مُحزناً. نعم، سيان ما تبطنه الحوادث، فكل الحوادث التي نعبُر بها أو تعبُر بنا، سوف تتصفي جميعها و تغتسل في نهر الحق الأبدي، و لن يبقى من كل ما عملت أيدينا و ما اشتهت قلوبنا إلا ما هو جليل و حق.

- وما أعظم الحياة التي تتلامس نسماتُها التي تنبعث من قلوبنا مع الحق و مع الله! فحياة مثل هذه تخط ُّفي كياننا الروحي صورة ملموسة عن الخلود الذي نحسه و نُحبه. و لو انكشف الحق في قلوبنا، لأدركنا إننا نجاهد يومنا و عمرنا لحساب هذا الخلود الذي سنحياه،  ولصار بذلك أمر الموت مبهجا عندنا كالحياة.

- لذلك أكتب إليك أيُها الأخ العزيز إلى نفسي و إلى قلبي، يا منْ استودعت ابنتك  لدى أذرع يسوع التي هي أحسن و احنُّ و أحبُّ من ذراعيك، لكي تتعزى تعزيةً حقيقية دائماً، لا بتناسي الموت بل بتذكُّره, عالما أن ( ... ) قد انتقلت لتكون أكثر قُرْباً إلينا، إن كُنا نحيا في حقيقة الحياة لا في صورها الزائفة.

        كُنْ معافى باسم الثالوث الأقدس.

                                                                          
                                                                          القمص متى المسكين
                                                                  (عام 1959م)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق